×
×

كويت نيوز في ضيافة المؤرخ اليهودي آفي شلايم – الجزء الأول: اليهود العرب وآثار الحركة الصهيونية

آفي شلايم متحدثا إلى كويت نيوز في مكتبته
س
س

أجرى المقابلة حسين سنا في ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ في أوكسفورد – المملكة المتحدة

صحيح أن التاريخ يكتبه المنتصرون، لكن معظم الوقائع التاريخية الكبرى التي تمثل تحولا وتغيرا في مجرى الأحداث لا يمكن طمس حقيقتها، أرتبطت نكبة فلسطين بالتطهير العرقي للشعب الفلسطيني بشكل يصعب التشكيك فيه، وإحلال جماعات أخرى تم توطينها من مختلف أنحاء العالم على أرض فلسطين، وقد حاولت الرواية الصهيونية للأحداث أن تنكر ذلك على مدى عقود بشتى الذرائع، فتارة يتم تضخيم مقولة “بيع الفلسطينيين لأراضيهم”، وأخرى يتم نكران أي انتهاكات استشهادا بوجود فلسطينيين في داخل الكيان الصهيوني اليوم، بل وصل الأمر أحيانا كما قالت غولدا مائير أنه “لا وجود لما يسمى بالشعب الفلسطيني”، ومع تقادم الزمن تفقد معظم الوثائق التاريخية التي يتم حجبها عن العامة قيمتها، فتتيح معظم الدول اطلاع عامة الناس عليها بعد عدة عقود، وفي حالة الكيان الصهيوني رفعت السرية عن بعض وثائق حرب النكبة (١٩٤٨) في نهاية الثمانينات، ولكن أدى اطلاع المؤرخين عليها إلى تحولات في الرواية الصهيونية للأحداث.

برز تيار “المؤرخين الجدد” New Historians خلال العقود الأخيرة كإحدى أبرز الحركات الفكرية التي أقرت بالتطهير العرقي في ١٩٤٨ بدلا من إنكاره، ويتمثل التيار في مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين غير المسيسين، والذين يتمثل مسارهم الوظيفي في البحث العلمي والأكاديمي، مثل بيني موريس، وإيلان بابيه، وتوم سيغف، وآفي شلايم ضمن آخرين، مثل رواج روايتهم للأحداث استنادا إلى الوثائق الإسرائيلية تشكيكا بالرواية التي قامت عليها “الهوية الوطنية الإسرائيلية”، وتأييدا للرواية العربية، مما أدى في النهاية إلى ظهور أفكار ضمن الداخل الإسرائيلي تدعو إلى “ما بعد الصهيونية” أي تجاوز الأيديولوجية الصهيونية والتعايش مع العرب ضمن إطار سلام عادل وشامل، بل وتخلى بعضهم عن جنسيته الإسرائيلية في الوقت الذي يعلن فيه البعض الآخر براءته من الفكر الصهيوني علنا، واستمر بعض المتطرفين (متمثلين في بيني موريس) من الذين يقرون بحدوث مجازر وجرائم وتطهير عرقي في حرب النكبة (حرب الاستقلال في الرواية الصهيونية)، لكنهم يؤكدون في الوقت ذاته أن الخطأ لم يكن في ارتكاب المجازر، بل في عدم إكمالها، فيدعون إلى إكمال التطهير العرقي اليوم عبر العودة لنفس محاولات التهجير والإبادة.

قد لا يمثل تيار المؤرخين الجدد أحزابا سياسية كبيرة في داخل الكيان الصهيوني تدعم هذه الفكرة بشكل كاف، وقد تكون السياسة صراع حاد على السلطة لا يكترث بالأفكار المثالية والأخلاقيات والحقائق، إلا أن معظم الحركات الفكرية كبرت ككرة ثلج، وتحولت من الأفكار إلى الواقع السياسي، بما فيها فكرة الصهيونية نفسها، وفي هذه المقابلة تحاور كويت نيوز أحد رواد هذه المدرسة التاريخية، البروفيسور اليهودي آفي (آفراهام) شلايم، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد البريطانية، حيث يقيم منذ دراسته قبيل حرب ١٩٦٧، رافضا الأسس التي قام عليها الكيان الصهيوني.

شكراً لموافقتك على هذه المقابلة

في البداية، هل يمكننا أن التعرف عليك أكثر، من أنت؟ وكيف انتهى بك المطاف كيهودي عراقي عربي في أكسفورد في النهاية؟ متى وُلدت ولماذا خرجت من العراق؟

وُلدت في بغداد في 31 أكتوبر 1945 في عائلة يهودية، وكانت عائلتي تتمتع بجذور عميقة، حيث كان هناك يهود في العراق منذ حوالي ألفي ونصف سنة، منذ السبي البابلي. كنا سعداء جدًا في العراق، وكان والدي تاجرًا ثريًا يتمتع بمكانة اجتماعية عالية، ويدير عملًا استيراديًا لجلب مواد البناء، وكان العديد من الوزراء في الحكومة العراقية من عملائه، عشنا في منزل كبير وكان لدينا حوالي 14 خادمًا. وكانت حياة مريحة وفاخرة جدًا، وكنا نشعر بالسعادة والاندماج التام في المجتمع العراقي.

أمي هي المصدر الرئيسي لمذكراتي “العوالم الثلاثة: مذكرات يهودي عربي”. وكانت تتحدث كثيرًا عن الأصدقاء المسلمين الرائعين الذين كانوا لدينا في بغداد. وفي يوم من الأيام سألتها، هل لدينا أصدقاء صهاينة؟ وقالت لا، الصهيونية شيء خاص باليهود الأشكناز (اليهود الأوروبيون)، فالذهاب إلى فلسطين وبناء دولة يهودية لم يكن لها أي جاذبية لنا لأننا كنا عراقيين،  وكانت أمي نموذجًا لليهود العراقيين، والدي لم يتحدث أي لغة أخرى غير العربية، ولم يكن لديه رغبة في مغادرة العراق.

والسبب في مغادرتنا للعراق في عام 1950 هو أنه بعد حرب 1948، كان هناك رد فعل ضد اليهود في العالم العربي، شاركت القوات العراقية في الحرب من أجل فلسطين، وانتهت الحرب بنكبة، حيث أصبح ثلاثة أرباع مليون فلسطيني لاجئين. وتم محو فلسطين من الخريطة، وبعد انهيار المجتمع الفلسطيني، غزت الجيوش النظامية للدول العربية المجاورة، تحت قيادة جامعة الدول العربية فلسطين بحجة تحريرها، لكن تلك المرحلة من الحرب انتهت أيضًا بهزيمة شاملة للعرب. وفي العراق، كان هناك اضطهاد لليهود من قبل الحكومة، تم فصل اليهود من وظائفهم، ولم يكن هناك خدمة حكومية لهم، كما تم فرض قيود على رجال الأعمال اليهود، وقيود أخرى على أعداد اليهود الذين يمكنهم الالتحاق بالجامعات، كان هناك اضطهاد رسمي لليهود، وتم تحويلهم إلى كبش فداء للهزيمة العربية في فلسطين.

آفي شلايم في الرابعة من عمره في بغداد

وكان هناك أيضًا عداء شعبي تجاه اليهود، ليس فقط بسبب الهزيمة في الحرب، ولكن أيضًا بسبب أن الصهيونية قامت بتطهير الفلسطينيين عرقيًا، لذلك كان هناك الكثير من التعاطف مع الفلسطينيين والاحتقان ضد إسرائيل. تغيرت الأمور في عام 1948، عندما تم إنشاء إسرائيل. أعطت الصهيونية لليهود بُعدًا مكانيا ووطنيا، للمرة الأولى في التاريخ. فأصبح أي عربي لا يحب اليهود قادرًا على معارضتهم علنًا بقول: “أنت لا تنتمي هنا. أنتم غرباء. لماذا لا تذهبون وتنضمون إلى إخوانكم في فلسطين؟”. وبالتالي، غيرت نشأة دولة إسرائيل وضع وظروف اليهود العرب للأسوأ. وقبل عام 1948، كان هناك حوالي 800,000 إلى 850,000 يهودي في العالم العربي. وكانت هناك مجتمعات يهودية مزدهرة في كل مكان في العالم العربي.

كانت هناك مجتمعات يهودية مزدهرة في كل مكان في العالم العربي. ولكن بحلول نهاية الأربعينات، وبعد تأسيس إسرائيل، وبمجرد مرور بضع سنوات على تأسيس إسرائيل، لم يكن هناك أي يهود تقريبًا متبقين. وفي العراق، كان هناك 135,000 يهودي في عام 1950. واليوم، هناك ثلاثة يهود فقط في العراق.

“العرب الذين وُلدوا بعد 1948 ليس لديهم فكرة عن أن الشرق الأوسط كان يبدو مختلفًا تمامًا قبل إنشاء إسرائيل”

لماذا رحلنا؟ كان ذلك في سياق من انعدام الأمن المتزايد. ثم كان هناك سبب أكثر تحديدًا لرحيلنا، في مارس من عام 1950، مررت الحكومة العراقية قانونًا ينص على أن أي يهودي عراقي يرغب في مغادرة البلاد يمكنه فعل ذلك بحرية. وكان أمامهم سنة للتسجيل. ولم يستفد العديد من اليهود من هذا، استفاد بضعة آلاف فقط. وفي السنة التالية، انفجرت خمس قنابل في ممتلكات يهودية في بغداد. وقد أدى ذلك إلى حالة من الذعر والخوف. ونتيجة لذلك، غادر 125,000 يهودي عراقي البلاد متوجهين إلى إسرائيل. أنا لا أقول إن إسرائيل أو الموساد كانا متورطين في بعض هذه التفجيرات. لا أقول إن الموساد هو من دبر هذه التفجيرات التي نفذها نشطاء صهاينة يهود في بغداد. ولا أقول إن هذا كان السبب الرئيسي للهجرة. أنا فقط أقول إنه كان سببًا إضافيًا أدى إلى الهجرة، إلى النزوح الجماعي، إلى تهجير المجتمع اليهودي بالكامل من بغداد. لذلك، كان هذا عاملًا يجب أخذه في الاعتبار.

لم أدرك تأثير تهجير يهود العراق -الذين هم جزء من المجتمع العراقي منذ آلاف السنين- حتى صادفت ما ذكرته عن أن هذه الفئة السكانية كانت موجودة منذ العصور البابليّة. ونحن الجيل الذي شهد، تطهيرهم العرقي. هذا ما رأيناه.

اهتمامي البحثي الرئيسي هو الصراع العربي-الإسرائيلي، ودائمًا كنت أعرف أن الفلسطينيين كانوا الضحايا الرئيسيين للصهيونية. فقدوا وطنهم، وأصبحوا لاجئين. لذلك كان ذلك أمرًا بديهيًا. ولكن، عندما كنت أكتب مذكراتي، أصبحت مدركًا لوجود فئة أخرى من ضحايا الصهيونية، وهم يهود الأراضي العربية. وكانت هناك مجتمعات يهودية مزدهرة في سوريا، ولبنان، ومصر، في جميع أنحاء المغرب العربي. والعرب الذين وُلدوا بعد 1948 ليس لديهم فكرة عن أن الشرق الأوسط كان يبدو مختلفًا تمامًا قبل إنشاء إسرائيل. كان المشهد مختلفًا تمامًا مع اليهود في كل مكان. لذلك، كانت الصهيونية قوة سلبية، كانت قوة تقسيم. لقد صنعت قطبين في الشرق الأوسط بين اليهود والمسلمين، بين الإسرائيليين والعرب. كانت قوة تقسيم عميقة. وقد غيّرت تمامًا النظرة والتوزيع السكاني (الديموغرافي) وشكل الشرق الأوسط بأسره. وأعتقد أن هذا هو السبب في وجود الكثير من الاهتمام بمذكراتي، خاصة الآن بعد إصدار النسخة العربية، لأن معظم العرب لن يكون لديهم أي فكرة عن أن الأمور كانت مختلفة تمامًا في وقت ما.

من المثير للاهتمام أن خطاب الإسرائيليين الصهاينة اليوم يقول أن تهجير اليهود العرب كان خطيئة من الأنظمة والدول العربية، أو حتى قد يقول بعض العرب أننا أخطأنا لأننا سمحنا لشعبنا اليهودي المحلي بالفرار، ولكنك تضع المسؤولية على الإسرائيليين الصهاينة، أو ربما حتى على القوى العظمى الأجنبية التي قد تكون لعبت دورًا في تهجير وتركيز السكان اليهود العرب وغير العرب في فلسطين.

أنا لا أُلقي باللوم على إسرائيل بشكل حصري في مسألة هجرة اليهود من الأراضي العربية، لكن حتى الآن، تم إيلاء اهتمام قليل جدًا للدور الذي لعبته إسرائيل، لذلك أنا أُعيد التوازن بالإشارة إلى مسؤولية إسرائيل، لكنك على صواب، فالأنظمة العربية كانت أيضًا مسؤولة عن طرد السكان اليهود، يمكننا أن نقول أن اليهود في الأراضي العربية كانوا عالقين بين حركتين قوميتين، القومية العربية من جهة، والقومية اليهودية-الصهيونية من جهة أخرى، كانت هناك حركات قومية متناقضة. وكان هناك تصاعد في معاداة السامية في العراق في فترة ما بين الحربين.

في العراق، كان هناك حزب الاستقلال، وهو حزب قومي ومعادٍ لليهود، كان يدعو إلى طرد اليهود من العراق ومصادرة ممتلكاتهم، وكان الحزب الوحيد في العراق الذي دافع عن اليهود وحقهم في البقاء كمواطنين كاملين هو الحزب الشيوعي. وكان العديد من اليهود نشطين في الحزب الشيوعي في العراق.

والد ووالدة آفراهام (ابراهيم) شلايم، في حفل زفافهما في بغداد عام

لو عرضت الحكومات العربية العودة اليوم على اليهود العرب الذين كانوا من مواطنيها وتم تهجيرهم إلى الكيان الصهيوني مقابل التخلي عن جنسيتهم وهويتهم الإسرائيلية. هل سيكون هذا ممكنًا؟ هل هناك طريقة لإصلاح هذه الكارثة؟

دعني أبدأ بإضافة إلى إجابتي على سؤالك الأخير أن الأنظمة العربية كانت جزئيًا مسؤولة عن طرد اليهود. واليوم هناك حركة في العراق تضم مفكرين يعترفون بذلك وهم على اتصال عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع العراقيين في إسرائيل. وهم يشعرون حقًا بالندم على الدور الذي لعبته الأنظمة العربية، والنظام العراقي في طرد اليهود، وهم يعتبرون اليهود عنصرًا إيجابيًا في المجتمع العراقي، ويعتقدون أن العراق أصبح أفقر بفقدان مواطنيه اليهود.

ونفس الموقف يسود في المغرب. المغرب هو نموذج للتعايش المسلم-اليهودي. لم يُضطهد اليهود المغاربة أبدًا. كانوا دائمًا محميين من قبل الملكية، لم يتم طردهم أبدًا، وكانوا دائمًا موضع ترحيب للعودة والزيارة، ولكن لو عرضت الأنظمة العربية كالنظام العراقي مثلا على اليهود العراقيين العودة إلى العراق، فلا أعتقد أن هناك الكثير من الذين سيقبلون، فقد مر وقت طويل، ولم يتبقَ العديد من الإسرائيليين من الذين ولدوا وعاشوا في العراق ولهم ارتباط به، والانقسام بين إسرائيل والعرب عميق جدًا لدرجة يصعب التغلب عليه.

أجبر يهود العراق على النزوح والهجرة منه، لذا فمن المفهوم أن يتحرك البشر للأمام، نحو أي مكان يستضيفهم ويُرحب بهم، وهكذا، فقد نجحت الصهيونية في استقطابهم، هل يمكنك أن تحدثنا عن مرحلة انتقالكم إلى الكيان الصهيوني في بداياتها؟

كانت هجرة اليهود أو الارتباط بإسرائيل عملية مؤلمة جدًا ومفاجئة جدًا، وتجارب الأفراد عند وصولهم إلى إسرائيل اختلفت من شخص لآخر، ومن عائلة إلى أخرى، ولكن بالنسبة للمجتمع ككل، كان الأمر مثل شجرة تم اقتلاعها من جذورها، لأن اليهود كان لهم جذور عميقة في العراق، وكان لديهم مؤسساتهم وكانوا مندمجين بشكل جيد في المجتمع العراقي. كما قلت سابقًا، هناك مجتمعات يهودية في العديد من البلدان العربية، لكن المجتمع اليهودي في العراق كان الأغنى، والأكثر نجاحًا، والأفضل اندماجًا مع بقية الأطياف، لذلك كان الاضطراب أكثر إيلامًا وصدمة.

وعندما وصل اليهود إلى إسرائيل في المطار، كان هناك أمران، الأول أنهم كانوا بلا مال لأنه لم يسمح لهم بحمل أكثر من حقيبة واحدة و50 دينارًا فقط، وثانيًا تم رشهم بمبيد حشري عندما وصلوا إلى المطار، وهو ما يستخدم مع الحيوانات، ولم تكن هذه بداية سعيدة جدًا مع “الأرض الموعودة” كان هناك يهود من العراق، ومن اليمن، ومن المغرب العربي، ومن ليبيا.

تم أخذهم إلى معسكرات العبور التي كانت تُسمى “مَعَابَرُوت” بالعبرية، كانت خيامًا أو أكواخًا، بدائية جدًا ومزودة بمعدات ثقيلة، وكانت الظروف الصحية فقيرة، مع طعام لم يكونوا معتادين عليه، وربما كان أسوأ ما في الأمر، أن مديري “المَعَابَرُوت” كانوا يهودًا أشكناز لم يكن لديهم أي فكرة عن يهود العراق الذين وصلوا وعن التميز والنجاح والمؤهلات والمكانة التي تمتعوا بها، وكانوا يظنون أنه يجب أن يتم أخذهم إلى معسكرات العبور، وينبغي أن نكون ممتنين لما كانت إسرائيل تفعله.

زاد ذلك من استياء يهود العراق الذين اضطروا لتحمل الظروف القاسية في معسكرات العبور، والشائعات التي كانت تقول إن إسرائيل لعبت دورًا في تهجيرهم غذت استياءهم من الدولة الجديدة، وإسرائيل تم إنشاؤها من قبل يهود أشكناز وكانت جميع النخب من الأشكناز، فمنذ البداية شعر يهود الأراضي العربية الذين يُطلق عليهم اسم “المزراحيين” أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.

وأنا شخصيًا شعرت بذلك، فقد كنت في الخامسة من عمري عندما وصلنا، وكان ذلك مجتمعًا أوروبيًا وكان لدي شعور بالنقص لأنني كنت فتى عراقيًا، وكنت أشعر في الأجواء أن هذا المجتمع الجديد كان ينظر إليّ وإلى أمثالي بتعالي، كانوا يعتبرون كل ما هو عربي أقل قيمة وبدائيًا، وكانت اللغة العربية تُعتبر لغة قبيحة، لذلك كنت أشعر بالخجل عندما كان والدي يتحدث إليّ بالعربية، وكان هذا الشعور بالنقص يسيطر على علاقتي بالمجتمع الإسرائيلي، لست متأكدًا ما إذا كنت أمثل الوضع النموذجي لبقية اليهود، ولكن كانت هناك صعوبات كبيرة لليهود من الأراضي العربية في التكيف مع المجتمع الجديد.

لدي نقطتان أود أن أتوسع فيهما، الأولى تتعلق بمعسكرات العبور، فقد تحدث شمعون بيريز عن أن من جاءوا في وقت مبكر كان عليهم الذهاب إلى معسكرات العبور. وقال: “كنت أنا في تلك المعسكرات كذلك. كنت آكل الخبز مع الطماطم لأننا لم نكن نملك شيئًا نأكله.” وكان يقول أن هذا بلد تم بناؤه من الصفر حسب قوله (وهو أمر من صميم الرواية الصهيونية إلا أنه غير دقيق لأن الصهاينة احتلوا بلاد فلسطين بمطاراتها وموانئها وشوارعها ومدنها وكل خيراتها)، لذا كان علينا أن نتحمل، كان علينا (أي الصهاينة) أن نكافح.

وهناك أيضًا أحد الوزراء السابقين في إسرائيل من أصل عراقي، مردخاي بن بورات. أعتقد أنه قال شيئًا مشابهًا حين كان يتحدث عن نفسه وقال: “أنا عراقي  وجئت هنا مبكرًا ولهذا وصلت إلى مراتب عليا في هذا المجتمع (الكيان الصهيوني). الأشخاص الذين جاؤوا متأخرين، بمن فيهم الأوروبيين، ليس بالضرورة من أوروبا الغربية، ولكن من روسيا أو من أماكن أخرى من أوروبا، إذا ذهبوا إلى إسرائيل اليوم، فهم لا يستطيعون الوصول بسهولة إلى قمة المجتمع لأن المجتمع إنتهى من مراحل التكوين والتأسيس الأولى.

هناك الكثير في هذا الادعاء بأن إسرائيل كانت وليدة جديدة، ولم تكن مؤسّسة بشكل جيد، ولم تكن لديها الموارد، وكان عليها أن تتعامل مع “عليا” (هجرة بالعبرية)، ليس فقط من الدول العربية، بل من أوروبا الشرقية، وكان هناك بعض التوترات، شعر اليهود الشرقيون أن اليهود البولنديين واليهود الرومانيين، وخاصة اليهود الرومانيين، كانوا يحصلون على تفضيل عليهم. لكن بشكل عام، كانت إسرائيل لديها 600,000 نسمة في أعقاب حرب طويلة ومريرة، وكان عليها استيعاب عدد كبير من المهاجرين من كل مكان، ولم يكن الأمر سهلاً لذا أنا لا أنكر ذلك.

لكن ما أتحداه هو السردية الرئيسية الصهيونية التي تقول إن معاداة السامية كانت موجودة في كل مكان، وأن معاداة السامية في العالم العربي كانت دائمة وشاملة ومتأصلة، وكانت هي التي دفعت اليهود للخروج من البلدان العربية، وأن إسرائيل قدمت بشكل نبيل ملاذًا آمنًا لليهود الذين يفرون من الاضطهاد في العالم العربي والإسلامي، هذه السردية الرئيسية هي التي أتحداها، وأريد أن يُعترف للدول العربية بالفضل في قرون التعايش بين المسلمين واليهود التي سبقت صعود القومية وصعود الصهيونية.

آفي شلايم في مكتبته المنزلية في مدينة أوكسفورد

أود التوقف عند ما ذكرته سابقًا حول مشاعر الدونية. كيف يتوافق ذلك مع القدوم من طبقة اجتماعية راقية في العراق؟ أتفهم أن هذا مجتمع جديد مع طبقات مختلفة، ولكنك نشأت في طبقة اجتماعية عالية فلماذا الشعور بالدونية؟

الهجرة إلى إسرائيل تُسمى “عليا”، وهي تعني حرفياً في العبرية “الصعود”، فأنت “ستصعد” لأنه يتم إرسالكم إلى الأرض الموعودة، ولكن في تجربة عائلتي ما اختبرناه لم يكن “عليا”؛ لم يكن صعودًا على السلم الاجتماعي؛ بالتأكيد لم يكن صعودًا على السلم الاقتصادي لأننا كنا أثرياء جدًا في العراق وخسرنا كل شيء، عندما وصلنا إلى إسرائيل، بالنسبة لعائلتي ولي، كانت الانتقال من العراق إلى إسرائيل ليس صعودًا؛ بل كان “يِريدا” (انحدارًا حادًا بالعبرية) من كوننا عائلة من الطبقة المتوسطة العليا إلى هوامش المجتمع الإسرائيلي.

بعد الهولوكوست تغير الموقف المتكبر من الحركة الصهيونية تجاه اليهود العرب، لأن الصهيونية أصبحت بحاجة إلى يهود من شتى الدول من أجل تأسيس الدولة اليهودية، فأصبحت الهجرة (عليا) أولوية قصوى

كيف كان شعورك حول ذلك؟ وكيف كان يتماشى مع الشعور بالدونية في هذا المجتمع الجديد؟

للأسف كان هناك عنصرية أشكنازية، الآباء المؤسسون وقادة الحركة الصهيونية كانوا ينظرون إلى العالم العربي من الأعلى وكانت تلك نظرتهم لليهود العرب، لم تكن هناك كراهية قوية ضدهم كما كان ضد العرب (الفلسطينيين)، لكنهم كانوا يعتبرون اليهود العرب أدنى ثقافيًا وفكريًا وتعليميًا مقارنة باليهود الأوروبيين.

فقط بعد الهولوكوست تغير هذا الموقف لأن الحركة الصهيونية أصبحت بحاجة إلى يهود من شتى الدول من أجل الدولة اليهودية، وبعد إنشاء إسرائيل أصبحت الهجرة (عليا) أولوية قصوى، وتم البحث عن اليهود في أي مكان يمكن العثور عليهم من جميع أنحاء العالم، لكن هذا الموقف المتعالي استمر بعد الهجرة الكبيرة إلى إسرائيل، وكان هناك عنصرية وتحامل ضد اليهود الشرقيين في إسرائيل، وكان هذا جليًا عندما كنت طفلًا – كان واضحًا جدًا، لكنه لا يزال موجودًا إلى حد ما حتى اليوم، لا يزال المجتمع الإسرائيلي منقسمًا، الناس يعرفون جيدًا من هو الأشكنازي ومن هو السفاردي، ولم يتم التغلب على هذا الانقسام الأولي بين اليهود الأشكناز والسفارد، فالأمر مستمر بدرجة أقل حتى اليوم.

الصهيونية قصة نجاح، فالهدف النهائي للصهيونية كان بناء دولة يهودية مستقلة في فلسطين

لقد خرجت من الكيان الصهيوني مرة أخرى في حوالي فترة حرب 1967، كيف انتقلت إلى المملكة المتحدة؟ كيف كنت ترى هذا التغيير في الوضع الإسرائيلي بعد الحرب؟ كان الأمر في البداية (بعد نكبة 1948) كما لو أن الكيان الصهيوني لن يدوم طويلا ثم بعد حرب 1967 شعر الكثير من الناس أن الاحتلال والاستيطان سيبقيان هنا لمدة طويلة.

كانت الصهيونية قصة نجاح، الهدف النهائي للصهيونية كان بناء دولة يهودية مستقلة في فلسطين، عشية حرب الأيام الستة، كانت هناك دولة يهودية قابلة للحياة في فلسطين، كانت حرب يونيو 1967 نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط، لكنها كانت أيضًا نقطة تحول في تاريخي الشخصي لأن أزمة مايو 1967 انفجرت، وكنت طالبًا في السنة الأولى في قسم التاريخ في كامبريدج، وقد خدمت في الجيش الإسرائيلي في منتصف الستينات (1964-1966)، كنت إسرائيليًا وطنيًا وكنت صهيونيًا، كنت أؤمن بعدالة قضيتنا، كنت أعتقد أننا دولة صغيرة وسلمية محاطة بعرب معادين يريدون رميّنا في البحر، ولذلك كان علينا القتال.

كان هذا موقفي عندما كنت طالبًا في السنة الأولى، ثم انفجرت الأزمة، وذهبت إلى السفارة الإسرائيلية في لندن وعرضت عليهم العودة للخدمة في الحرب التي كنا نعلم جميعًا أنها قادمة، أخذوا بياناتي ولم أسمع منهم مجددًا؛ انتهت الحرب في ستة أيام.

بدأ شعوري بخيبة الأمل تجاه إسرائيل تدريجيًا بعد حرب الأيام الستة لأن إسرائيل أصبحت قوة استعمارية؛ لقد ضاعفت أراضيها وكانت تحتل شعبا عربيا مقاوما، كان جيشي الصغير، الجيش الإسرائيلي، الذي كنت أعتقد عندما خدمت فيه أنه يفي باسم “قوات الدفاع الإسرائيلية”، لكن بعد 1967 أصبح هذا الجيش قوة شرطة قاسية لدولة استعمارية قاسية، لذا بدأ شعوري بخيبة الأمل تجاه إسرائيل بعد حرب الأيام الستة وتحديدًا بسبب البدء في بناء مستوطنات مدنية على الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ فالمستوطنات هي العائق الرئيسي أمام السلام، وأيضًا كانت إسرائيل تقوم بتطهير عرقي لفلسطين بدأ في 1948 واستمر بعد 1967 ولا يزال مستمرًا حتى اليوم.



Web Design & SEO by WebVue