مع دخول الأزمة الصحية عامها الثالث وظهور عدد من المشكلات الاقتصادية على السطح بات واضحاً عدم وجود أي حلول جذرية أو تغير في النهج لدى الحكومة في التعامل مع القضايا المتجذرة والاختلالات في اقتصاد البلد، بل أن الحكومة عودتنا على سياسية الدخول في خندق حتى مُضي السحابة ومن ثم العودة إلى عادتها القديمة.
فمنذ ديسمبر 2020، تقدمت الجمعية الاقتصادية بأربع مبادرات رئيسية إلى الجهاز الحكومي، الأولى تعنى بدعم قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر إنشاء صندوق وطني يقدم منح تحفيزية للمسجلين على الباب الخامس في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية عُرف بـ”صندوق إنعاش” وتلتها ورقة أولويات الإصلاح الشامل في الاقتصاد الكويتي المعدة بالتعاون مع مجموعة من الخبراء الاقتصاديين والأكاديميين، بالإضافة إلى تقديم الجمعية توصياتها في ما يخص مشروع قانون دعم وضمان تمويل البنوك المحلية للعملاء المتضررين من تداعيات أزمة كورونا، بالتعاون مع مجموعه من المبادرين المتضررين و رواد الأعمال ووزراء ومسؤولين حكوميين وكذلك مبادرة تحرير الأراضي الصناعية والتجارية والتي تبناها مجموعة من نواب مجلس الأمة. ومنذ أكثر من خمس سنوات حذرت الجمعية الاقتصادية الكويتية ما نعيش فيه من اختلالات هيكلية لاقتصادنا وعدم استدامة نموذج التنمية الاقتصادية المبني على قيادة القطاع العام.
لذلك نحن في الجمعية الاقتصادية الكويتية نركز على أن أولى مراحل الإصلاح الشامل هي وجود إرادة سياسية جادة تعزز ثقة الشعب في الحكومة ومن ثم تهيئة المجتمع لأي إجراء إصلاحي في المستقبل كما فصّلنا في “أولويات الإصلاح الشامل في الاقتصاد الكويتي”، وأن يرتكز الإصلاح اليوم على أمر واحد أساسي وهو الإصلاح المؤسسي كي تتمكن الحكومة من الوصول إلى الإصلاحات الأخرى. ونؤكد على أن أي إصلاح يبدأ من مس جيب المواطن هو إصلاح ساقط اقتصاديا قبل أن يسقط شعبياً. فالهدر المالي في الميزانية من الواجب ضبطه قبل التفكير بفرض ضرائب، ومحاربة الفساد وتقليل التكلفة الباهظة والمصاحبة له كذلك على رأس سلم الأولويات. كما أنه من الضروري دراسة الآثار الاقتصادية المترتبة على أي قرار قبل اتخاذه.
إلا أننا تفاجأنا كما تفاجئ الجميع بإجراءات حكومية أبعد ما تكون عن الواقع وهو ما تجلى واضحاً من عجز حكومي على التقدم بمشروع واحد لانتشال البلد من حالة المرض السريري الذي أصابه، إذ أنها دلائل على أن السلطة التنفيذية تغرد خارج السرب في مشهد محزن لعجزها عن اتخاذ القرار.
شعرنا في الجمعية الاقتصادية الكويتية بأن برنامج عمل الحكومة الجديدة للفصل التشريعي الـ 16 للسنوات من 2021/2022 إلى 2024/2025 لم يكن إلا تكملة للمسيرة السابقة في التذبذب الحكومي. والواضح بأن هناك حالة من اللامبالاة تسيطر على المشهد الاقتصادي وتدخله في دهاليز السياسة إلى حالة من الركود غير المسبوق، لذلك ليس غريبا أن يصب الرأي العام غضبه على الحكومة ونواب المجلس من جراء التأخر وعدم الاكتراث في تطبيق تغييرات هيكلية اقتصادية. برنامج عمل الحكومة الأخير زادت عليه الصفة السياسية حيث حمل طابعاً هلامياً لا يخلو من الكلام الموزون من غير رؤية واضحة في تحقيق أهدافها وهذا يعكس التخوف السابق للجمعية من خلو رؤية إصلاحية واضحة وعدم وجود الإرادة الصادقة في حل المشكلات.
برنامج عمل الحكومة الأخير هو استمرار للكلام الإنشائي الذي يصدر من مجلس الوزراء، ولم يعد يهم المواطن أينما كان هذه البيانات الصادرة لأنها بلا جدول زمني وبلا رؤية فعلية وهي مجرد حبر على ورق يقدم لمجلس الأمة وينتهي حال صدوره. إن أبرز ما شهدناه في هذا البرنامج المفكك هو غياب قائمة التشريعات المطلوبة لإنجازه، وتم الاكتفاء فيه بجملة “إن أي تشريعات خاصة لكل محور من محاوره تتم مناقشتها مع اللجان المعنية بمجلس الأمة وتقديمها بعد اعتمادها من لجنة متابعة البرنامج”.
وبرغم ان بنود الضريبة والدَّين العام ورفع الدعم عن بعض الخدمات وتقليلها يأتي بشكل رئيسي في كل برنامج عمل للحكومة، إلا أنها حضرت هذه المرة على استحياء وتلونت بين السطور بجمل مطاطية على وزن “مراجعة الخدمات العامة” و ” وتحسين قدرات إدارة الضرائب” وكذلك “العمل على تنفيذ استراتيجية التخصيص” حتى تكون اعتباراتها السياسية أقل كلفة على أعضاء مجلس الأمة.
إن برنامج العمل الحكومي بما يحمله من تناقضات يدل على أن مهما تغيرت الشخوص في القيادات التنفيذية يبقى الخلل واحد. حمل البرنامج جملة تناقضات صارخة عاكس فيها قرارات وسياسات سبق لمجلس الوزراء اتخاذها بشكل رسمي، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن البرنامج في بند المصروفات العامة رقم 4.5 يؤكد على ضبط اجور بعض الرواتب العامة، وكذلك تحسين ميزانية المصروفات، فيما نشهد بالمقابل أن الزيادة السنوية في هذا البند تصل إلى 8%، اللافت كذلك أن مجلس الوزراء نفسه الذي ألغى مشروع إنشاء محطات توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية كمشروع “الدبدبة”، يدعو اليوم في هذا البرنامج إلى الحث على إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة.
المقلق بالنسبة لنا هو استخفاف تلك العقلية الحكومية بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي حل بها عملية إبادة جماعية بمباركة حكومية، تقوم في هذا البرنامج بالدعوة إلى “تعزيز وتمكين المشاريع الصغيرة” بدم بارد. لن يتغير الواقع المؤلم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة ما لم يتغير النهج الاقتصادي المتبع في الدولة ولن تخرج المشاريع من القطاع الاستهلاكي إلى القيمة المضافة ما لم يتم توفير البيئة المناسبة لذلك فالتحديات التي تواجه المشاريع الصغيرة ليست حكراً عليه بل هي تحديات القطاع الخاص بأكمله.
والمؤسف أيضاً أن يتصدر اسم الكويت صحف عالمية بفضائح وجرائم مالية دولية تنعكس سلباً على مركزها المالي وعلى سمعتها أدت إلى إعلان بعض مؤسسات التصنيف الائتمانية مراجعة تصنيفاتها لبعض المؤسسات المصرفية والمالية في المنطقة لارتباطها بالمال الأسود. هذا كله بدون ذكر في الخطة الحكومية إلا بكلام عام عم محاربة الفساد قد أُرهقنا من سماعه.
المؤلم في كل هذا أن نسب الفساد المالي في ازدياد مضطرد، ولم تؤثر فيه أزمة اقتصادية ولا أزمة صحية، والأكثر ألماً أننا كشعب تعايشنا مع الفساد وتغيرت نبرتنا تجاهه من اللامهادنه إلى الإنكار على الفساد وهو أضعف الإيمان، ولم يردع تلك الممارسات الفاحشة بالتعدي السافر على أموال العامة ومقدرات البلد تلك المؤسسات الرقابية الفاعلية منها والهلامية التي أُنشئت مؤخراً.
حركة الاقتصاد الكويتي تشوب حوله ظلال سوداء، في المقابل أن الدولة الكويتية عاجزة تمامًا عن تنفيذ وإدارة أي مشروع ناجح، فعلى الرغم من تجاذبات السلطتين على مدى الأعوام وتعاقب الحكومات إلا أن الحكومات كانت تحتكم على أغلبية مريحة في جميع البرلمانات السابقة، باستثناء برلمان واحد في السنوات السابقة، فلماذا لم تمرر خططها ومشاريعها؟ لا نحاكم النوايا، ولكن التجربة تؤكد أن الحكومة عاجزة عن تنفيذ أي عملية إصلاح، فالسلطة الحقيقية لدى الحكومات المتعاقبة وليس البرلمانات.
لذلك من باب أولى عندما يتطرق برنامج عمل الحكومة لعبارات فضفاضة على وزن “كلفة الإصلاح المالي والاقتصادي ستتفاقم في حالة التأخر في المعالجة” نشعر أننا نخاطب جهة مجتمع مدني وليس جهة تنفيذية بيدها مفاتيح الحل والربط في البلد. هذا كله على نفس نسق استبدال المصطلحات الخلافية بجمل فضفاضة لطيفة مثل “تعزيز قدرات إدارة الضرائب” كوصف جديد لضريبة القيمة المضافة، وكذلك مشروع البديل الاستراتيجي تحول إلى “تعديل نظام الوظائف والرواتب” وغيرها من دعوات وخصخصة.
اللافت على الصعيد التنفيذي في برنامج عمل الحكومة هو خلوه من الأهداف والتشريعات خلال سنوات الخطة حتى 2024-2025 دون وضع خطة تنفيذ في كيفية الوصول الى هذه الأهداف، والواضح فيه عدم الجدية في التنفيذ وهو لذر الرماد على عيون نواب الامة.
لذلك نكرر أنه لم يعد يهمنا كمواطنين قراءة البيانات الاقتصادية الصادرة عن مجلس الوزراء، فالتاريخ أثبت ان البيانات السياسية والاقتصادية وغيرها لا تخلق وحدة، ولا تنجز مشروعاً، ولا تكشف لصاً، ولا تداوي مريضاً، بل هي كلام إنشائي رتيب ومكرر لا قيمة له، ينتهي بمجرد صدوره. فلا تزال الحكومة تخاطر في تقليل تقديرها للتحديات الاقتصادية العالمية، نظرا لانعدام الإرادة، ومن لا يملك التشخيص لا يعرف الحل، لذلك برنامج العمل الحكومي هو وعود سياسية ليس لها رصيد واقعي.
إننا نقف على خط سواء مع إخواننا في جهات المجتمع المدني الحيّة في ريبة مترقبين أمام هذا السلوك الحكومي، فالكويت اليوم تمر بأخطر مراحلها، فبعد نفاد الاحتياطي العام للدولة وتراجع الإيرادات النفطية بات اليوم السحب من صندوق احتياطي الأجيال محل نقاش بطلب من السلطة التنفيذية والتي عجزت في السنوات الماضية عن تبني الحلول التنموية لاستدامة الاقتصاد الوطني.
مع التأكيد على أننا كمؤسسة مجتمع مدني منتخبة تهدف الى المساهمة الفاعلة ونشر الوعي وتقديم مبادرات بغرض خدمة الصالح العام ولا مصلحة لنا سوى الارتقاء بتنافسية وشفافية الاقتصاد الكويت، وكذلك نطمح بأن نساهم ولو بشيء بسيط بتطوير بيئة الأعمال والارتقاء بتنافسية وشفافية الاقتصاد الكويتي.
ختاماً، هل يمكن لمجتمع عاقل فيه هذا العدد من المثقفين والمتعلمين، وفيه مؤسسات دستورية وصحافة حرة ان يقبل بأن نتصرف كالمجتمعات البدائية التي استهلكت مواردها الخام ثم ظلت تندب حظها؟ لو حدث أن كان هنالك إنجاز اقتصادي، وان كان متواضعا، فإنجاز صغير على الجبهة الاقتصادية هو خير ألف مرة من كلام سياسي كبير لا يطعم ولا يغني من جوع.