×
×

أسطول الصمود.. شهادة أخلاقية تتحدى الصمت وتُجسّد الموقف الكويتي الأصيل

د. محمد جمال المشارك في حملة أسطول الصمود العالمي
س
س

قال د. محمد جمال المشارك في حملة أسطول الصمود العالمي لكسر الحصار عن قطاع غزة أنه في الأسابيع التي سبقت ذهابه في البحر أن هاجسه الأكبر كان هو تذكر ابنه سليمان ذي السنوات الخمس إذا ما جرى علي مكروه.

وقال د. محمد جمال كنت أقلب صفحات ذاكرتي وأحاول استحضار طفولتي في ذلك العمر كي أجيب على سواحل ما إذا كان الطفل في ذلك العمر يستذكر، كنت أتطلع في صورنا معا والڤيديوهات لعلها تستطيع إخباره بكم الحب الذي لدي تجاهه.

ذات يوم جاءتني إلى العيادة أم مع ابنها لإجراء عملية جراحية لمرضه. في أثناء أخذي للتاريخ المرضي سألت عن الأمراض العائلية فاكتشفت أن أباه توفي من جلطة حادة في القلب وهو أي الطفل كان في سن الخامسة. توقفت ثم سألته إن كان يستذكر أباه فأجابني بنعم.

المصير الذي كان ينتظرنا على يد الإحتلال لم يكن كالذي جرى فعلا. فما جرى كان أفضل من المتوقع بكرات عديدة. التهديدات الصهيونية كانت تتوالى منذ نهاية أغسطس حيث كان المخطط محاكمتنا وفق قانون الإرهاب مع سجن طويل الأمد وإغراق بعض السفن وإيقاع الضحايا بينا. ما حصل معنا فعليا كان أفضل من المتوقع بفضل الله الذي سخر لنا الشعوب التي أرعبت الصهاينة.. وأنتم يا أهل الكويت كنتم أحد تلك الشعوب الحية التي نجتنا من أيديهم فلقد غمرتمونا بكل الحب والعطف والدعم وذلك لن تنساه ما حيينا.. نتشرف بالإنتماء لكم ونفخر بكم.

لكن وسط الراحة التي تجلبها رفاهية الحياة.. ونحن نجلس في الغرف الباردة في حر الصيف يسهل على البعض أن يسطح أفعال التضامن ويعتبرها مجرد مسرح ممتع لا يغير شيئاً. لقد سمعنا هذا الحديث من قبل، في كل عصر، عن كل حركة تجرأت على الوقوف ضد الظلم وعن كل شخص اختار التحرك على التواطؤ بالصمت. نعم الصمت وسط كل الذبح والتجويع في غزة شكل من أشكال التواطؤ. يقولونها الآن عن أسطول الصمود، وهم، كما كانوا دائماً، في الجانب الخاطيء من التاريخ.

لفهم سبب أهمية هذه الأفعال، يجب أولاً أن نفهم ما تخشاه سلطات الإحتلال أكثر من أي شيء. إنها ليست الصاروخ أو القنبلة.. فهذه يمكن الرد عليها بقوة أعظم. ما تخشاه السلطة حقاً هو الشهادة الأخلاقية التي لا يمكن الرد عليها، الفرد الذي يقف ويقول ببساطة: لن أصمت. لن أغض الطرف عما يجري. لهذا السبب اعتقلتنا السلطات الصهيونية. ليس لأننا شكلنا تهديداً عسكرياً..بل شكلنا شيئاً أكثر خطورة: تهديداً لرواية الصمت.

نحن نعيش في عصر المسافة المصطنعة التي يتم فيها ابعاد المشاهد عن التفاعل مع معاناة الآخرين وذلك يتضح بشكل جلي في إبادة غزة. تعتمد هياكل السلطة الحديثة على المواقف السلبية للملايين الذين لو واجهوا المعاناة مباشرة، لتراجعوا رعباً. آلية صنع هذه المسافة معقدة: لغة بيروقراطية تحول البشر إلى إحصائيات وتلغي كينونتهم، وسائل إعلامية تطبّع غير الطبيعي، وثقافة السخرية التي تريد أن تقول أن أفعالنا لا يمكن أن تغير الواقع وتساعد أهل غزة .

ضد هذه الهندسة من اللامبالاة، يصبح أي فعل ثورياً. عندما أبحرنا نحو غزة، كنت مدركا أن قافلتنا الصغيرة قد لا تكسر الحصار. لكن الهدف الرئيسي كان شيئاً أكثر عمقاً: هذا العالم يغرق في المعلومات لكنه يتضور جوعاً للحقيقة، ولذلك فإن التواجد هناك وبكل بساطة يصبح صرخة مدوية للحقيقة التي تحمل ثقلا لا يساويه كل أثقال الأرض.

هناك دول سياستها الخارجية مكتوبة بلغة الانتهازية، ثم هناك دول مثل الكويت، التي ظل موقفها من فلسطين ثابتاً عبر عقود حين لم يكن هذا الثبات سهلا. هذا ليس صدفة بل إرث..إرث بلد يعرف في كينونته ما يعنيه الاحتلال، وما تكلفه الحرية، ولماذا لا يمكن أن يكون التضامن وسيلة للإنتهازية.

دعم الكويت للقضية الفلسطينية يسبق الأزمة الحالية بأجيال. إنه منسوج في هوية الكويتيين التي تعرف ماهيتهم، ولقد تم التعبير عنه ليس من خلال تصريحات جوفاء بل من خلال نسيج متناسق: مساعدات إنسانية، دعوات دبلوماسية، والعمل الهادئ والمثابر للحفاظ على القصة الفلسطينية حية عندما أراد آخرون نسيانها.

نعم خرجنا كأفراد ولم يكن أمرا منظما من الدولة لكننا لم نكن سوى انعكاسا لما تربينا عليه في بلد الخير والإنسانية الكويت.

يخطئ من يعتقد أن “القوة الناعمة” تعني الضعف. إن الوجه الناعم لشعب ما ما ليس قناعاً يضعه لإخفاء مصالحه.. بل هو التعبير الحقيقي عن قيم الشعب. وعندما يتصرف شعب بما يتفق مع قيمه المعلنة، حتى حين يكون ذلك مكلفاً، فإنها تكسب شيئاً لا يمكن شراؤه: المصداقية الأخلاقية.

عندما يسمع شاب في جاكرتا أو كيب تاون أو بوينس آيرس عن أسطول الصمود، فإنه لا يتعلم فقط عن فلسطين..بل يتعلم عن الكويت. يتعلم أن هناك شعب صغير في الخليج يرفض الانحناء لضغط القوة، دولة حيث المواطنون أحرار في التصرف وفق ما تمليه عليهم ضمائرهم هذا هو جوهر القوة الناعمة: ليس الدعاية، بل الأصالة. ليس الصورة، بل الحقيقة.

سيسأل البعض: هل كسرتم الحصار؟ لكنهم يطرحون السؤال الخاطئ. النجاح لا يُقاس فقط بالنتائج المادية الفورية، بل بما نحققه على مستوى الوعي والضمير الإنساني. وعلى هذا المستوى، حققنا الكثير.

أولاً، كسرنا حاجز الصمت. في عالم تريد فيه قوى عظمى أن تُنسى غزة، أبحرنا نحوها وجعلنا العالم ينظر مجدداً. الإعلام الدولي غطى رحلتنا، ووسائل التواصل الاجتماعي اشتعلت بالنقاش، والناس في كل قارة تحدثوا عن الحصار الذي كان يُراد له أن يصبح “طبيعياً”.

ثانياً، فضحنا طبيعة الاحتلال. عندما اعتقلنا الإسرائيليون—ونحن متطوعون مدنيون نحمل مساعدات إنسانية—أثبتوا للعالم بأفعالهم ما لم تستطع كلماتنا إثباته: أنهم يخافون حتى من أبسط أشكال التضامن الإنساني. في محاولتهم إسكاتنا، منحونا صوتاً أعلى. في محاولتهم إخفاءنا، سلطوا علينا الأضواء.

ثالثاً، أرسلنا رسالة أمل لا تُقدر بثمن. للأطفال في غزة الذين يعيشون تحت الحصار، أثبتنا أنهم لم يُنسوا، أن هناك من يرفض التطبيع مع معاناتهم. وللملايين حول العالم الذين يشعرون بالعجز، أظهرنا أن الفعل الفردي ممكن ومؤثر.

رابعاً، عززنا مكانة الشعب الكويت كصوت أخلاقي في المنطقة. في زمن يُتهم فيه العالم العربي بالصمت والتطبيع، أثبت الشعب الكويت..من خلال دعمه لن.. أنه يتخذ الموقف الذي يتناسب مع الأقوال وأنه ليس شعبا يتحدث بالشعارات فقط، وأن مبادئه ليست مجرد كلام فارغ. هذه هي القوة الناعمة في أنقى صورها: المصداقية الأخلاقية التي لا تُشترى ولا تُستأجر.

والآن يعود الأسطول منتصراً، لا مهزوماً. منتصراً لأننا فعلنا ما كان صحيحاً حين كان الكثيرون يؤثرون الراحة على الضمير. منتصراً لأننا أثبتنا أن الشعوب حرة في أن تتصرف وفق قيمها. منتصراً لأننا ساهمنا في نسج ذلك النسيج العظيم من الوعي الذي سيجعل التغيير، يوماً ما، ممكناً.

في نهاية المطاف، لا تُقاس الأمم بثروتها أو قوتها العسكرية، بل بما تقف من أجله حين يكون الوقوف مكلفاً. والكويت، من خلال مواقفها مع فلسطين، اختارت أن تُقاس بمعيار المبدأ.

نشكر في الختام صاحب السمو أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد الصباح على موقف الكويت الثابت والراسخ.. لن أنسى ما حييت كلمات الدعم منه على إظهار وجه الكويت الإنساني في العالم عندما عدت من غزة وسط حرب الإبادة عام 2024 حيث تشرفنا باستقباله الكريم.

كما نشكر الحكومة ممثلة بوزارة الخارجية على جهودها التي تستمر لتحرير أخينا المحامي خالد العبدالجادر حماه الله.

نعم ما فعلناه هذه المرة كان تصرفا فرديا لكنه رسالة وطن.