وليد السبيعي
يُعد فيلم هوبال من أبرز الإنتاجات السينمائية السعودية الحديثة، حيث استطاع أن يقدم تجربة فريدة تجمع بين السرد العميق والأسلوب البصري السريالي، ليحكي قصة إنسانية مؤثرة تتناول العزلة والصراع مع المعتقدات الراسخة. الفيلم من إخراج عبدالعزيز الشلاحي وتأليف مفرج المجفل، وتم عرضه لأول مرة في ديسمبر 2024، ليحظى بإشادة واسعة من النقاد والجمهور، بفضل رؤيته الإخراجية المتميزة وأداء طاقم التمثيل القوي.
القصة والتشابه مع “الحرافيش” لنجيب محفوظ
تدور أحداث الفيلم في صحراء المملكة العربية السعودية خلال أوائل التسعينيات، حيث يقود الجد “ليام”، الذي يجسده ببراعة إبراهيم الحساوي، أسرته في عزلة تامة عن العالم الخارجي، مقتنعًا بأن نهاية العالم وشيكة، هذه العزلة ليست مجرد خيار بل فرض صارم يؤمن بأنه سيحمي عائلته من المخاطر الخارجية، إلا أن هذا النظام الصارم يبدأ في الانهيار عندما تُصاب حفيدته “ريفة” بمرض خطير، مما يدفع والدتها للوقوف أمام قواعد الجد في محاولة لإنقاذ ابنتها، وهو ما يشعل صراعًا داخليًا بين الإيمان المطلق بالعزلة وبين الضرورة الإنسانية لإنقاذ حياة الطفلة.
هذا التوتر الدرامي في القصة يحمل تشابهًا ملحوظًا مع رواية الحرافيش لنجيب محفوظ، والتي يُعد بطلها “عاشور الناجي” شخصية مشابهة من حيث فلسفة العزلة. فكما قرر عاشور الابتعاد عن العالم والتأمل في الصحراء بعد الرؤيا التي رآها في منامه قبل أن يعود ليواجه مصيره، نرى الجد ليام يسير على النهج ذاته، لكن من زاوية مختلفة، إذ يفرض العزلة على أسرته لا على نفسه فقط، وهو ما يولّد صراعًا نفسيًا مركبًا يُعد أحد أبرز عناصر القوة في الفيلم.

أداء قوي يعزز عمق القصة
أحد أبرز عوامل نجاح هوبال هو الأداء التمثيلي، حيث استطاع إبراهيم الحساوي تقديم شخصية الجد ليام بواقعية مذهلة، ملامحه الجافة، صوته الحازم، وطريقة تحكمه في لغة الجسد كلها ساهمت في جعل الشخصية مرعبة في قوتها، لكنها في ذات الوقت هشة أمام تقلبات الزمن والمواقف التي تفوق سيطرته، الحساوي لم يكن مجرد ممثل في هذا الدور، بل حمل فلسفة الفيلم بالكامل على كتفيه، مقدمًا أداءً متقنًا يجعل المشاهدين يتعاطفون معه رغم قراراته القاسية.
إلى جانبه، برزت الممثلة ميلا الزهراني التي أدت دور سَرّا بنت عياد (والدة ريفة)، والتي جسدت مشاعر الأم الممزقة بين الولاء لسلطة الجد وحماية ابنتها، نظراتها المرتعبة، نبرات صوتها المترددة، وحتى لحظات الانفجار العاطفي التي قدمتها جعلت شخصيتها من أكثر العناصر تأثيرًا في الفيلم.
أما الطفل “عساف”، فقد كان له دور محوري يضيف بُعدًا نفسيًا عميقًا للعمل، بخلاف البالغين في العائلة الذين انصاعوا تمامًا لأوامر الجد ليام وخضعوا لسلطته دون نقاش، ظهر عساف كرمز للتمرد الفطري الذي لم يُبرمج بعد على الخوف من كسر القوانين العائلية، الطفل الذي لم تُقيد براءته بقواعد العزلة والخضوع، هو الوحيد الذي امتلك الجرأة لكسر القرار المصيري، عندما وصلت الحالة الصحية لريفة إلى مرحلة خطرة، لم يتردد عساف في اتخاذ القرار الذي لم يستطع عمامه اتخاذه: إخراج ريفة من العزلة وأخذها إلى الطبيب، في لحظة فارقة كسرت الحلقة المغلقة من الخضوع والخوف، هذه الجزئية أضافت رسالة رمزية قوية للفيلم، تُبرز كيف أن الأطفال في براءتهم وعدم برمجتهم على الخضوع قادرون على اتخاذ القرارات التي قد يعجز عنها الكبار، وهو ما منح القصة بعدًا إنسانيًا وثوريًا في الوقت ذاته.

كيف استخدم الفيلم الرمزية والفن البصري؟
ما يجعل هوبال تجربة مميزة ليس فقط قصته، بل الطريقة التي تم تقديمها بها، الفيلم يحمل طابعًا سرياليًا واضحًا، حيث يستخدم المخرج عبدالعزيز الشلاحي العديد من الرموز والتكوينات البصرية لنقل الأفكار والمشاعر بدلاً من الاكتفاء بالحوار التقليدي، الصحراء في الفيلم ليست مجرد خلفية للأحداث، بل تبدو وكأنها كيان مستقل، تمثل العزلة والصمت والخوف من المجهول.
اعتمد المخرج على الإضاءة الطبيعية والظلال القوية لتعزيز الشعور بالضيق والخوف، كما أن بعض المشاهد تم تصويرها بزوايا غير مألوفة، مما يعكس حالة الاضطراب النفسي التي تعيشها الشخصيات، على سبيل المثال، هناك مشاهد تظهر الجد ليام في زوايا منخفضة ليبدو أكثر ضخامة وسلطوية، بينما تُصور الأم والطفلة من زوايا علوية لتبدو أضعف وأكثر هشاشة، وهو اختيار بصري ذكي يخدم السرد بطريقة غير مباشرة.
بين الإيمان والخوف من التغيير
من بين العناصر التي تجعل هوبال فيلمًا يستحق المشاهدة هو الرسالة التي يحملها، فهو لا يطرح فقط قصة عن العزلة بل يستكشف فكرة الصراع بين الإيمان الراسخ والتغيير الذي تفرضه الظروف، الجد ليام ليس مجرد رجل متزمت، بل هو رمز للخوف من المجهول، بينما تمثل الأم وطفلتها الجانب الإنساني الذي يسعى للبقاء حتى لو كان ذلك يعني كسر القواعد.
كما يطرح الفيلم سؤالًا عميقًا عن مفهوم الحماية، هل الحماية المطلقة تساوي السعادة؟ أم أن فرض العزلة على من نحبهم قد يكون في الحقيقة نوعًا آخر من السجن؟ هذا التناقض بين النوايا الحسنة والنتائج الكارثية هو ما يجعل هوبال فيلمًا قويًا ومثيرًا للتفكير.

لماذا يعتبر “هوبال” نقلة في السينما السعودية؟
هوبال ليس مجرد فيلم آخر عن حياة البدو أو عن الصحراء، بل هو عمل سينمائي متكامل يجمع بين القصة العميقة، الأداء التمثيلي المتقن، والأسلوب البصري الفريد، من خلال استلهامه لعناصر من الأدب الكلاسيكي مثل الحرافيش، ودمجه للبعد الفلسفي مع الفن السريالي، نجح الفيلم في تقديم تجربة فريدة لا تعتمد على السرد التقليدي، بل تدفع المشاهد للتفكير والتأمل.
هذا الفيلم يُعد خطوة كبيرة للأمام في مسيرة السينما السعودية، حيث يثبت أن الأفلام المحلية قادرة على التطرق إلى موضوعات إنسانية معقدة بأساليب فنية متطورة، وبفضل قوة الأداء والرسائل العميقة التي يحملها، سيظل هوبال من الأفلام التي تترك أثرًا في ذاكرة المشاهدين لوقت طويل.